معجزات
القرآن
الفصل
الاول: تعريف الإعجاز وإثباته:
الإعجاز:
إثبات العجز. والعجز في التعارف: اسم للقصور عن فعل الشيء. وهو ضد القدرة، وإذا
ثبت الإعجاز ظهرت قدرة المعجز، والمراد بالإعجاز هنا: إظهار
صدق النبي صلى الله عليه وسلم في دعوى الرسالة بإظهار عجز العرب عن معارضته في معجزته الخالدة وهي القرآن، وعجز الأجيال بعدهم.والمعجزة: أمر خارق للعادة مقرون بالتحدي سالم عن المعارضة.
صدق النبي صلى الله عليه وسلم في دعوى الرسالة بإظهار عجز العرب عن معارضته في معجزته الخالدة وهي القرآن، وعجز الأجيال بعدهم.والمعجزة: أمر خارق للعادة مقرون بالتحدي سالم عن المعارضة.
والقرآن
الكريم تحدى به النبي صلى الله عليه وسلم العرب، وقد عجزوا عن معارضته مع طول
باعهم في الفصاحة والبلاغة، ومثل هذا لا يكون إلا معجزًا. قد ثبت أن الرسولصلى
الله عليه وسلم تحدى العرب بالقرآن على مراحل ثلاث:
1. تحداهم بالقرآن كله في أسلوب عام
يتناولهم ويتناول غيرهم من الإنس والجن تحديًّا يظهرعلى طاقتهم مجتمعين، بقوله
تعالى: قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثلهذا القرآن لا يأتون بمثله ولو
كان بعضهم لبعض ظهيرا[1].
2. ثم تحداهم بعشر سور منه في قوله تعالى:
أم يقولون افتراه قل فأتوا بعشر سور مثله مفتريات وادعوا من استطعتم من دون الله
إنكنتم صادقينفإلم يستجيبوا لكم فاعلموا أنما أنزل بعلم الله[2].
3.
ثم تحداهم بسورة واحدة منه
في قوله: أم يقولون افتراهقل فأتوا بسورة مثله[3]،
وكرر هذا التحدي في قوله: وإن كنتم في ريبمما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله[4]
.
ومن
عنده إلمام قليل بتاريخ العرب وأدب لغتهم يدرك العوامل السابقة لبعثة الرسولصلى
الله عليه وسلم التي رقت بلغة العرب وهذبت لسانها وجمعت خير ما في لهجاتها من
أسواق الأدب والمفاخرة بالشعر والنثر، حتى انتهى مصب جداول الفصاحة وإدارة الكلام
بالبيان في لغة قريش التي نزل بها القرآن، وما كان عليه العرب من صَلَف يعلو
بأحدهم على أبناء عمومته أنفا وكبرا مضرب مثل في التاريخ الذي سجل لهم أيامًا
نُسِبت إليهم لما أحدثوه فيها من معارك وحروب طاحنة أشعلها شرر من الكبرياء
والأنفة.
ومثل
هؤلاء مع توفر دواعي اللسان وقوة البيان التي يوقدها حماس القبيلويؤججها
أتون الحميَّة لو تسنى لهم معارضة القرآن الكريم لأُثِرَ هذا عنهم, وتطاير خبره في
الأجيال، فالقوم قد تصفحوا آيات الكتاب وقلبوها على وجوه ما نبغوا فيه من شعر ونثر
فلم يجدوا مسلكًا لمحاكاته، أو منفذًا لمعارضته، بل جرى على ألسنتهم الحق الذي
أخرسهم عفو الخاطر عندما زلزلت آيات القرآن الكريم قلوبهم كما أُثِرَ ذلك عن
الوليد بن المغيرة، وعندما عجزت حيلتهم رموه بقول باهت فقالوا: سحر يُؤثر, أو شاعر
مجنون، أو أساطير الأولين. ولم يكن لهم بد أمام العجز والمكابرة إلا أن يعرِّضوا
رقابهم للسيوف، وكأن اليأس القاتل ينقل بنيه من نظرتهم للحياة الطويلة والعمر
المديد إلى ساعة الاحتضار فيستسلمون للموت الزؤام وبهذا ثبت إعجاز القرآن بلا
مراء.
وكان سماعه
حجة ملزمة: وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله[5]، وكان ما يحتويه من نواحي
الإعجاز يفوق كل معجزة كونية سابقة ويُغني عنها جميعًا: وقالوا لولا أنزل عليه
آيات من ربه قل إنما الآيات عند الله وإنما أنا نذير مبين أولم يكفهم أنا أنزلنا
عليك الكتاب يتلى عليهم[6].
وعجز العرب
عن معارضة القرآن مع توفر الدواعي عجز للغة العربية في ريعان شبابها وعنفوان
قوتها.والإعجاز لسائر الأمم على مر العصور ظل ولا يزال في موقف التحدي شامخ الأنف،
فأسرار الكون التي يكشف عنها العلم الحديث ما هي إلا مظاهر للحقائق العليا التي
ينطوي عليها سر هذا الوجود في خالقه ومدبره, وهو ما أجمله القرآن أو أشار إليه
فصار القرآن بهذا مُعجزًا للإنسانية كافة.
الفصل
الثاني: وجوه إعجاز القرآن:[7]
لقد
كان لنشأة علم الكلام في الإسلام أثر أصدق ما يقال فيه: إنه كلام في كلام، وما فيه
من وميض التفكير يجر متتبعه إلى مجاهل من القول بعضها فوق بعض. وقد بدأت مأساة
علماء الكلام في القول بخلق القرآن، ثم اختلفت آراؤهم وتضاربت في وجوه إعجازه.
فذهب
أبو إسحاق إبراهيم النظام[8]
ومن تابعه كالمرتضى من الشيعة إلى أن إعجاز القرآن كان بالصرفة، ومعنى الصرفة في
نظر النظام: أن الله صرف العرب عن معارضة القرآن مع قدرتهم عليها، فكان هذا الصرف
خارقًا للعادة، ومعناها في نظر المرتضى، أن الله سلبهم العلوم التي يُحتاج إليها
في المعارضة، ليجيئوا بمثل القرآن وهو قول
يدل على عجز ذويه، فلا يقال فيمن سُلِب القدرة على شيء أن الشيء أعجزه ما دام في
مقدوره أن يأتي به في وقت ما، وإنما المعجز حينئذ هو قدر الله، فلا يكون القرآن
معجزًا، وحديثنا عن إعجاز مضاف إلى القرآن سوف يظل ثابتًا له في كل عصر، لا عن إعجاز
الله.قال القاضي أبو بكر الباقلاني: ومما يُبطل القول بالصرفة، أنه لو كانت
المعارضة ممكنة، وإنما منع منها الصرفة، لم يكن الكلام معجزًا، وإنما يكون المنع
معجزًا، فلا يتضمن الكلام فضلًا على غيره في نفسه.والقول بالصرفة قول فاسد يرد
عليه القرآن الكريم في قوله تعالى: قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل
هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا[9],
فإنه يدل على عجزهم مع بقاء قدرتهم، ولو سُلبوا القدرة لم يبق فائدة لاجتماعهم،
لمنزلته منزلة اجتماع الموتى، وليس عجز الموتى بكبير يُحتفل بذكره.
أ. وذهب قوم إلى أن القرآن مُعجز ببلاغته
التي وصلت إلى مرتبة لم يُعهد لها مثيل وهذه النظرة نظرة أهل العربية الذين يولعون
بصور المعاني الحية في النسج المحكم، والبيان الرائع.
ب. وبعضهم يقول: إن وجه إعجازه في تضمنه
البديع الغريب المخالف لما عُهِد في كلام العرب من الفواصل والمقاطع.
ت. ويقول آخرون: بل إعجازه في الإخبار عن
المغيبات المستقبلة التي لا يُطَّلع عليها إلا الوحي. أو الإخبار عن الأمور التي
تقدمت منذ بدء الخلق بما لا يمكن صدوره من أمي لم يتصل بأهل الكتاب.كقوله تعالى في
أهل بدر: سيُهْزَم الْجمع ويولون الدّبر[10].وقوله:
لقد صدق الله رسولَه الرّؤيا بالحق[11].وقوله:
وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض[12].وقوله:
الم غلبت الرومفي أدنى الأرض وهم منبعد غلبهم سيغلبون[13].وقوله:
تلك من أنباء الغيب نوحيها إليك ما كنت تعلمها أنت ولا قومك من قبل هذا[14].
وسائر قصص الأولين.
وقال
الزركشى هذا قول مردود لأنه يستلزم أن الآيات التي لا خبر فيها عن المغيبات
المستقبلة والماضية لا إعجاز فيها، وهو باطل، فقد جعل الله كل سورة معجزة بنفسها[15].
وذهب
جماعة إلى أن القرآن مُعجز لما تضمنه من العلوم المختلفة، والحِكَم البليغة.وهناك
وجوه أخرى للإعجاز تدور في هذا الفلك جمعها بعضهم في عشرة أو أكثر.
والحقيقة
أن القرآن معجز بكل ما يتحمله هذا اللفظ من معنى:فهو مُعْجز في ألفاظه وأسلوبه،
والحرف الواحد منه في موضعه من الإعجاز الذي لا يغني عنه غيره في تماسك الكلمة،
والكلمة في موضعها من الإعجاز في تماسك الجملة، والجملة في موضعها من الإعجاز في
تماسك الآية.وهو مُعْجز في بيانه ونظمه، يجد فيه القارئ صورة حية للحياة والكون
والإنسان.وهو مُعجز في معانيه التي كشفت الستار عن الحقيقة الإنسانية ورسالتها في
الوجود.وهو مُعجز بعلومه ومعارفه التي أثبت العلم الحديث كثيرًا من حقائقها
المغيبة.وهو مُعجز في تشريعه وصيانته لحقوق الإنسان وتكوين مجتمع مثالي تسعد
الدنيا على يديه.
والقرآن
أولا وآخرا، هو الذي صير العرب رعاة الشاة والغنم ساسة شعوب وقادة أمم، وهذا وحده
إعجاز. قال الخطابي في كتابه[16]:
فخرج من هذا أن القرآن إنما صار معجزا؛ لأنه جاء بأفصح الألفاظ، في أحسن نظام
التأليف، مضمنا أصح المعاني، من توحيد الله وتنزيهه في صفاته، ودعاء إلى طاعته،
وبيان لمنهاج عبادته، فيتحليل وتحريم، وحظر وإباحة، ومن وعظ وتقويم، وأمر بمعروف
ونهي عن منكر، وإرشاد إلى محاسن الأخلاق، وزجر عن مساويها، واضعًا كل شيء منها
موضعه الذي لا يُرى شيء أولى منه، ولا يُتوهم في صورة العقل أمر أليق به منه،
مودعًا أخبار القرون الماضية وما نزل من مثلات الله بمن عصى وعاند منهم، منبئا عن
الكوائن المستقبلة في الأعصار الماضية من الزمان جامعا في ذلك بين الحجة والمحتج
له، والدليل والمدلول عليه، ليكون ذلك أوكد للزوم ما دعا إليه، وإنباء عن وجوب ما
أمر به ونهى عنه.
ومعلوم
أن الإتيان بمثل هذه الأمور, والجمع بين شتاتها حتى تنتظم وتتسق، أمر تعجز عنه قوى
البشر, ولا تبلغه قدرتهم، فانقطع الخلق دونه، وعجزوا عن معارضته بمثله.
القدر
المعجز من القرآن:
أ. يذهب المعتزلة إلى أن الإعجاز يتعلق
بجميع القرآن لا ببعضه، أو بكل سورة برأسها.
ب. ويذهب بعضهم إلى أن المُعْجز منه
القليل والكثير دون تقييد بالسورة لقوله تعالى:فليأتوا بحديث مثله[17].
ت. ويذهب آخرون إلى أن الإعجاز يتعلق
بسورة تامة ولو قصيرة، أو قدرها من الكلام كآية واحدة أو آيات.
ولقد
وقع التحدي بالقرآن كله: قل لئن اجتمعت الإنْس والْجنّ على أن يأتوا بمثل هذا الْقرآن
لا يأتون بمثله[18].وبعشر
سور: فأتوا بعشر سور مثله[19].وبسورة
واحدة: فأتوا بسورة مثله[20].وبحديث
مثله:فليأتوا بحديث مثله[21].
ونحن
لا نرى الإعجاز في قدر معين؛ لأننا نجده في أصوات حروفه ووقع كلماته، كما نجده في
الآية والسورة، فالقرآن كلام الله وكفى.وأيًّا كان وجه الإعجاز، أو القدر المعجز.
فإن الباحث المنصف الذي يطلب الحق إذا نظر في القرآن من أي النواحي أحب: من ناحية
أسلوبه، أو من ناحية علومه، أو من ناحية الأثر الذي أحدثه في العالم وغير به وجه
التاريخ، أو من تلك النواحي مجتمعة, وجد الإعجاز واضحا جليا, ويجدر بنا أن نأتي
بكلمة في هذه النواحي الثلاثة من الإعجاز القرآني: ناحية الإعجاز اللغوي، وناحية
الإعجاز العلمي، وناحية الإعجاز التشريعي.و في هذا القضية أختص باعجاز اللغوى
الفصل
الثالث: الإعجاز اللغوي:
لقد
مارس أهل العربية فنونها منذ نشأت لغتهم حتى شبت وترعرعت، وأصبحت في عنفوان شبابها
عملاقا معطاء، واستظهروا شعرها ونثرها، وحكمها وأمثالها، وطاوعهم البيان في أساليب
ساحرة، حقيقة ومجازا، إيجازا وإطنابا، حديثا ومقالا، وكلما ارتفعت اللغة وتسامت،
وقفت على أعتاب لغة القرآن في إعجازه اللغوي كَسِيرة صاغرة، تنحني أمام أسلوبه
إجلالا وخشية، وما عهد تاريخ العربية حقبة من أحقاب التاريخ. ازدهرت فيها اللغة
إلا وتطامن أعلامها وأساتذتها أمام البيان القرآني اعترافًا بسموه، وإدراكًا
لأسراره ولا عجب،فتلك سُنة الله في آياته التي يصنعها بيديه، لا يزيدك العلم بها
والوقوف على أسرارها إلا إذعانًا لعظمتها، وثقة بالعجز عنها، ولا كذلك صناعات
الخلق، فإن فضل العلم بها يمكنك منها ويفتح لك الطريق إلى الزيادة عليها، ومن هنا
كان سحرة فرعون هم أول المؤمنين برب موسى وهارون[22].والذين
تملكهم الغرور، وأصابتهم لوثة الإعجاب بالنفس، وحاولوا التطاول على أسلوب القرآن،
حاكوه بكلام فارغ، أشبه بالسخف والتفاهة والهذيان والعبث. وارتدوا على أعقابهم
خاسرين، كالمتنبئين وأشباه المتنبئين، من الدجالين والمغرورين.
وقد
شهد التاريخ فرسانًا للعربية خاضوا غمارها وأحرزوا قصب السبق فيها، فما استطاع أحد
منهم أن تحدثه نفسه بمعارضة القرآن، إلا باء بالخزي والهوان، بل إن التاريخ سجل
هذا العجز على اللغة، في أزهى عصورها، وأرقى أدوارها، حين نزل هذا القرآن، وقد
بلغت العربية أشدها، وتوافرت لها عناصر الكمال والتهذيب في المجامع العربية
وأسواقها، ووقف القرآن من أصحاب هذه اللغة موقف التحدي. في صور شتى، متنزلًا معهم
إلى الأخف من عشر سور إلى سورة إلى حديث مثله، فما استطاع أحد أن يباريه أو يجاريه
منهم، وهم أهل الأنفة والعزة والإباء. ولو وجدوا قدرة على محاكاة شيء منه، أو
وجدوا ثغرة فيه. لما ركبوا المركب الصعب أمام هذا التحدي، بإشهار السيوف، بعد أن
عجز البيان، وتحطمت الأقلام.
وتتابعت
القرون لدى أهل العربية، وظل الإعجاز القرآني اللغوي راسخا كالطود الشامخ، تذل
أمامه الأعناق خاضعة، لا تفكر في أن تدانيه، فضلا عن أن تساميه؛ لأنها أشد عجزا
وأقل طمعا في هذا المطلب العزيز. وسيظل الأمر كذلك إلى يوم الدين.
ولا
يستطيع أحد أن يدعي عدم الحاجة إلى معارضة القرآن، وإن كان ذلك ممكنا، فإن التاريخ
يشهد بأنه قد توافرت الدواعي الملحة لدى القوم لمعارضة القرآن، حيث وقفوا من
الرسالة وصاحبها موقف الجحود والنكران، واستثار القرآن حميَّتهم، وسفَّه أحلامهم،
وتحداهم تحديًا سافرًا يثير حفيظة الجبان الرعديد مع ما كانوا عليه من أنفة وعزة.
فسلكوا مع الرسول صلى الله عليه وسلم مسالك شتى، ساوموه بالمال والمُلك ليكف عن
دعوته، وقاطعوه ومن معه حتى يموتوا جوعًا. واتهموه بالسحر والجنون، وتآمروا على
حبسه، أو قتله أو إخراجه. وقد دلهم على الطريق الوحيد لإسكاته وهو أن يجيئوه بكلام
مثل الذي جاءهم به، ألم يكن ذلك أقرب إليهم وأبقى عليهم لو كان أمره في يدهم،
ولكنهم طرقوا الأبواب كلها إلا هذا الباب، وكان القتل والأسر والفقر والذل وكل
أولئك أهون عليهم من ركوب هذا الطريق الوعر الذي دلهم عليه، فأي شيء يكون العجز إن
لم يكن هذا هو العجز، والقرآن الذي عجز العرب عن معارضته لم يخرج عن سُنن كلامهم.
ألفاظًا وحروفًا، تركيبًا وأسلوبًا، ولكنه في اتساق حروفه، وطلاوة عبارته، وحلاوة
أسلوبه، وجرس آياته، ومراعاة مقتضيات الحال في ألوان البيان، في الجمل الاسمية
والفعلية، وفي النفي والإثبات، وفي الذكر والحذف، وفي التعريف والتنكير، وفي
التقديم والتأخير، وفي الحقيقة والمجاز، وفي الإطناب والإيجاز. وفي العموم
والخصوص، وفي الإطلاق والتقييد، وفي النص والفحوى، وهلم جرًّا، ولكن القرآن في هذا
ونظائره بلغ الذروة التي تعجز أمامها القدرة اللغوية لدى البشر.
قال
البيهقي في الدلائل عن ابن عباس: "أن الوليد بن المغيرة جاء إلى النبي صلى
الله عليه وسلم فقرأ عليه القرآن، فكأنه رَقَّ له، فبلغ ذلك أبا جهل، فأتاه فقال
له: يا عم: إن قومك يريدون أن يجمعوا لك مالًا ليعطوكه، فإنك أتيت محمدًا لتتعرض
لما قِبَلِه. قال: قد علمت قريش أني من أكثرها مالًا، قال: فقل فيه قولًا يبلغ
قومك أنك منكر له وكاره، قال: وماذا أقول فوالله ما فيكم رجل أعلم بالشعر مني لا
برجزه ولا بقصيده ولا بأشعار الجن، والله ما يشبه الذي يقوله شيئًا من هذا، ووالله
إن لقوله الذي يقول لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإنه لمثمر أعلاه، مغدق أسفله، وإنه
ليعلو وما يُعلى، وإنه ليحطم ما تحته، قال: والله لا يرضى قومك حتى تقول فيه، قال:
فدعني حتى أفكر، فلما فكر قال: هذا سحر يؤثر، يأثره عن غيره، فنزلت: ذرني ومن خلقت
وحيدا[23].
وحيثما
قلَّب الإنسان نظره في القرآن وجد أسرارًا من الإعجاز اللغوي.يجد ذلك في نظامه
الصوتي البديع بجرس حروفه، حين يسمع حركاتها وسكناتها، ومدَّاتها وغُنَّائها،
وفواصلها ومقاطعها، فلا تمل أذنه السماع، بل لا تفتأ تطلب منه المزيد.
ويجد
ذلك في ألفاظه التي تفي بحق كل معنى في موضعه، لا ينبو منها لفظ يقال إنه زائد،
ولا يعثر الباحث على موضع يقول إنه يحتاج إلى إثبات لفظ ناقص.
ويجد
ذلك في ضروب الخطاب التي يتقارب فيها أصناف الناس في الفهم بما تطيقه عقولهم،
فيراها كل واحد منهم مقدرة على مقياس عقله ووفق حاجته، من العامة والخاصة، ولقد
يسّرنا القرآن للذكر فهل من مدكر[24].
ويجد
ذلك في إقناع العقل وإمتاع العاطفة، بما يفي بحاجة النفس البشرية تفكيرًا ووجدانًا
في تكافؤ واتزان، فلا تطغى قوة التفكير على قوة الوجدان، ولا قوة الوجدان على قوة
التفكير.وهكذا حيثما قلَّب النظر قامت أمامه حجة القرآن في التحدي والإعجاز[25].قال
القاضي أبو بكر الباقلاني[26]:
والذي يشتمل عليه بديع نظمه المتضمن للإعجاز وجوه: منها ما يرجع إلى الجملة، وذلك
أن نظم القرآن على تصرف وجوهه واختلاف مذاهبه خارج عن المعهود من نظام جميع
كلامهم، ومباين للمألوف من ترتيب خطابهم، وله أسلوب يختص به ويتميز في تصرفه عن
أساليب الكلام المعتاد، وذلك أن الطرق التي يتقيد بها الكلام البديع المنظوم،
تنقسم إلى أعاريض الشعر على اختلاف أنواعه، ثم إلى أنواع الكلام الموزون غير المقفى،
ثم إلى أصناف الكلام المعدل المسجع، ثم إلى معدل موزون غير مسجع، ثم إلى ما يرسل
إرسالًا فتطلب فيه الإصابة والإفادة وإفهام المعاني المعترضة على وجه البديع،
وترتيب لطيف، وإن لم يكن معتدلًا في وزنه، وذلك شبيه بجملة الكلام الذي لا يتعمل
يتصنع له. وقد علمنا أن القرآن خارج عن هذه الوجوه، ومباين لهذه الطرق، فليس من
باب السجع، وليس من قبيل الشعر، وتبين بخروجه عن أصناف كلامهم، وأساليب خطابهم أنه
خارج عن العادة. وأنه مُعجز، وهذه خصوصية ترجع إلى جملة القرآن، وتميز حاصل في
جميعه، وليس للعرب كلام مشتمل على هذه الفصاحة والغرابة والتصرف البديع, والمعاني
اللطيفة، والفوائد الغزيرة، والحِكَم الكثيرة، والتناسب في البلاغة، والتشابه في
البراعة على هذا الطول وعلى هذا القدر، وإنما تُنسب إلى حكيمهم كلمات معدودة،
وألفاظ قليلة، وإلى شاعرهم قصائد محصورة يقع فيها الاختلال والاختلاف، والتكلف
والتعسف، وقد جاء القرآن على كثرته وطوله متناسبًا في الفصاحة على ما وصفه الله عز
من قائل: الله نزّل أحسن الحديث كتابا متشابها مثانيَ تقْشَعرُّ منه جلود الذين يخشون
ربهم ثم تَلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكرالله[27]،
ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا[28].
فأخبر أن كلام الآدمي إن امتد وقع فيه التفاوت وبان عليه الاختلال.
[1]سورة
الإسراء: 88
[2]هود: 13، 14.
[3]يونس: 38.
[4]البقرة:
23.
[5]التوبة:
6.
[6]العنكبوت:
50، 51.
[7]ذكر العلماء في وجوه
الإعجاز ما يربو على عشرة أوجه، وسنقتصر على أهمها
[8] هو أبو إسحاق إبراهيم بن سيار النظام شيخ الجاحظ، وأحد رءوس
المعتزلة، وإليه تنسب الفرقةالنظامية، توفي في خلافة المعتصم سنة بضع وعشرين
ومائتين
[9] الإسراء: 88
[10] القمر: 45
[11] الفتح: 27
[12] النور: 55.
[13] الروم: 1-3.
[14] هود: 49.
[15] انظر "البرهان" للزركشي جـ2 ص95، 96
[16] هو أبو سليمان حمد بن
محمد بن إبراهيم الخطابي، في كتابه "بيان إعجاز القرآن" طبع ضمن ثلاثة
رسائل بمطبعة المعارف بتحقيق محمد خلف الله ومحمد زغلول سلام، وانظر
"البرهان" للزركشي جـ2 ص101 وما بعدها
[17]الطور: 34
[18] الإسراء: 88.
[19] هود: 13
[20] يونس: 38.
[21] الطور: 34
[22]مباحث في علوم
القرآن م : مناع القطان ط : مكتبة المعارف للنشر والتوزيع. ج.1 ص. 271
[23] أخرجه الحاكم وصححه، والبيهقي في الدلائل - [والآية من سورة
المدثر: 11]
[24] القمر: 17.
[25] راجع الإعجاز اللغوي في "النبأ العظيم" بتوسع
[26] هو القاضي أبو بكر محمد بن الطيب الباقلاني صاحب كتاب "إعجاز
القرآن" وكتاب "التقريب والإرشاد" في أصول الفقه، توفي سنة 403
هجرية.
[27] الزمر: 23.
0 comments:
Post a Comment